الإثنين 13 ربيع الأول 1446هـ / 16 سبتمبر 2024م
     Sveriges
religiösa råd
المجلس السويدي
للشؤون الدينية     
الثلاثاء 31 مايو 2022

نحن وعُقدة "الإمام الجماهيري المحبوب من الجميع!"

المقدمة

بقلم الأستاذ الشيخ عبدالحميد شاهين

لا شك في إن أي إنسان في الدنيا يحب أن يكون مرضياً في محيطه، يحبه الناس ويثنون عليه خيراً ولا يذكرونه بسوء. وإمام المسجد وخطيبه ليس ببدْعٍ من الناس، فهو كذلك يحب أن ينال رضا من حوله. والفرق في طلب ذلك بين الإمام وغيره كبير جداً، فعامة الناس إنما يطلبون الجاه والشرف بحق وبباطل، فيما لا يمكن أن يطلب الإمام (السوي) ذلك إلا بحق، وذلك الحق معروف للجميع وواضحة معالمه بحيث لا يخفى على صغار طلاب العلم فضلاً عمن بلغ في العلم الشرعي أن يبلغ دين الله إلى الذين من حوله، ذلك هو العِلم الشرعي، وفهم الدين ونفع الخلق بما فتح الله به.

لكننا ومنذ بدايات القرن الخامس عشر الهجري بدأنا نشهد تغيراً مخيفاً في الصورةعند أكثر أئمة المساجد، بحيث صار الحرص فيهم على إرضاء الناس عنهم آفة بدأت تنخر في أسس المساجد، لا أقول في أسس بنائها من جدران وسقوف، كلا.. بل في أعظم أساس  للمسجد ذكره الرب جل في علاه في كتابه، الذي هوالتقوى، ذلك الأساس المتين الذي أسس عليه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم مسجد قباء:لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ(التوبة 108)

ولما وقع الخلل وصار كثير من الأئمة يطلبون رضا الخلق من غير باب العلم والعمل بالعلم، بل من غير تقوى، صرنا نرى منهم من يتصنع لمن حوله ما يدغدغ به عواطفهم دون أثارة من علم، حتى صار الخطيب يُقلد مشاهير الخطباء بطريقة ممجوجة مقرفة، يستنسخ الخطب ويلقيها بلسان رجل آخر، فيصرخ في مواطن لا تحتمل الصراخ، ويتصنع البكاء تقليداً لمتبوعه، وربما تكلم فيما لا حاجة للناس فيه لمجرد أن قاله الخطيب الذي يقلده! وكم شهدتُ فيمصر في مساجد صليت فيها في القاهرة والإسكندرية وعدد من مناطق مصر خطباء يقلدون الشيخين عبد الحميد كشك ومحمد الشعراوي بطرق أقل ما يقال فيها أنها أقرب إلى قلة العقل، إذالا يُعقَل أن يحدث الخطيب جمهوره في خطبة الجمعة في سنة ١٤٤٠ بحديث عن نظام جمال عبدالناصر الذي هلك بحدود سنة ١٣٩٠ فينقل الناس -بلا داعٍ- إلى جو الخلاف المشحون والحرب الطاحنة بين عبد الناصر وخصومه في حينه، في خطب مستنسخة مكررة يحاكي فيها الخطيب المقلِّد حركات أيدي وتنهدات وانفعالات المُقَلَّد! ولا ريب في إن ذلك لا يستجلب رضا الناس، بل على العكس تماماً، إذ يجعل من الخطيب مثاراً لسخريتهم وتندرهم، بل لسخرية غيره  ممن غير رواد مسجده، وبالأخص في هذا العصر الذي يحمل فيه كل واحد من المصلين كاميرا تصوير وتسجيل عالية الجودة في جيبه، فهو يسجل بها كل شاردة وواردة، ومواقع تحميل مقاطع الفيديو تدفع له مقابل النشر! وصاحبنا لا يبالي بكل ذلك!

وإن منهم لفريقاً يقتصر التقليد عندهم على المواضيع دون الهيئات، فهو إذ أُعجب بمواضيع خطيب واستحسن كلامه، يحسب أن الناس مثله، وينسى -في خضم سعيه المحموم لنيل رضا الجمهور - أنه ليس كذلك الخطيب خبرة ولا علماً، فهو نسخة مزيفة مشوهة عنه، وأن طريقة طرح ذلك الذي يقلده لا تصلح له، بل سيبدو في نظر مستمعيه كهيئة من يلبس ثوباً لا يناسبه عمراً ولا شكلاً!

ومنهم من يبالغ في الخوض في السياسة (تأييداً للموجة السائدة) فهو مرة ضد صدام حسين، وأخرى يصفه بسيد الشهداء!! وتارة مع الثوار السوريين، وتارة ضدهم (لأن ذلك صار هو السائد بعد مأساة سوريا) وهكذا دون ضابط من تقوى ولا شرع، إن هي إلا الرغبة في إرضاء الجمهور، حتى لقد بلغ ببعض أولئك أن دعوا على بعض أئمة الحرمين الشريفين منحفظة كتاب الله وممن يأتم بهم الملايين من المسلمين، دعوا عليهم في الوتر من صلاة التراويح في رمضان بتلك الطريقة المبتدعة (طريقة التغني بالدعاء الطويل الممل الخارج عن هدي النبي في الدعاء) كل ذلك لكي يرضى عنهم الجمهور الجاهل، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

لكن ذلك يهون إذا ما قيس بمحاولات كثير من الخطباء استدرار محبة الجمهور من خلال النزول إلى مستوى سفلة العامة، من قلة الأدب وبذاءة اللسان والمزاح الخارج حتى عن حدود أخلاق العرب في الجاهلية، فضلاً عن خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بل لقد -والله- شاهدت منهم من يقول النكات التي فيها سخرية من القرآن والسُنة، بل من الرب جل وتقدس ومن نبيه ومن الإسلام ودعاته ليُضحك جماعته طمعاً في بلوغ رضاهم، ووالله ما رضوا عنه، بل جعلوا منه مسخرة لمجالسهم، وصاروا يُسمعوه سخريتهم من خطبه ودروسه(وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)سورة الحج 18

إخوتي ومشايخي الأئمة والخطباء الكرام..

إن بلوغ رضا الناس ومحبتهم غير ممكن دون بلوغ رضا الله جل جلاله، وإن  بلوغ رضاه جل جلاله يمكن أدراكه، بخلاف رضا الناس،وإن الحرص على طلب العلم الشرعي والتمكن فيه يُعرِّف العبد بربه، وإذا عرف العبد ربه خافه واتقاه واجتهد وعمل بما علم، ولا يكون ذلك إلا بالعلم. فإذا ما بلغ الإمام ذلك، فصار لا يتحرك ولا ينطق إلا بما يرضي عنه ربه دون التفات إلى الخلق، سخر الله له كلشيء، وأتته الدنيا وهي راغمة، ورُزق محبة الناس بحقها، حتى إن الناس ليشربون حبه مع الماء البارد. وسأدلل على ذلك باثنين من أهل العلم، وضع الله لهما القبول والحب في قلوب عباده، على الرغم من إنهما لم يكونا على خِلقة سوية! أولهما الإمام محمد بن عبد الرحمن الأوقص رحمه الله، إذ كانت خلقته دميمة، وكانت رقبته داخلة في بدنه، فهو بلا رقبة! ويخرج منكباه كأنهما عمودان، فقالت له أمه: يا بني لا تكن في قومك إلا المضحوك منه المسخور به، فعليك بطلب العلم فإنه يرفعك. فطلب العلم فولي قضاء مكة عشرين سنة، وكان الخصم إذا جلس بين يديه يرتعد حتى يقوم!

هذا الرجل الذي مرت به امرأة يومًا وهو يقول: اللهم أعتق رقبتي من النار، فقالت له: يا ابن أخي فأي رقبة لك؟! هذا الرجل يقول عنه محمد بن القاسم بن خلاد: كان الأوقص قصيرًا دميمًا قبيحًا قال: فقالت لي أمي وكانت عاقلة: يا بني إنك خلقت خلقة لا تصلح لمعاشرة الفتيان، فعليك بالدين فإنه يتمم النقيصة، ويرفع الخسيسة. فنفعني الله بقولها، وتعلمت الفقه، فصرت قاضيًا. ا.هـ من تاريخ دمشق: 54/ 105- 106]

وثانيهما الإمام عطاء بن أبي رباح رحمه الله. قال إبراهيم بن إسحاق الحربي:كان عطاء بن أبي رباح عبدًا أسوداً لامرأة من أهل مكة، كان أنفه كأنه باقلاء، هذا الرجل الدميم، الأسود، الذي ربما كان أفطس الأنف، أنفه كأنه باقلاء، رجع إليه أهل مكة بأكملهم في الفتوى، فهو مفتي مكة البلد الحرام. جاء الخليفة سليمان بن عبد الملك إلى عطاء بنأبي رباح وابناه معه فجلسوا إليه وهو يصلي، فلما صلى انفتل إليهم، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج، وقد حول قفاه إليهم، ثم قال سليمان لابنيه: قوما، فقاما فقال: يا بَني لا تنيا في طلب العلم فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود ا.هـ من نشر طيّ التعريف في فضل حملة العلم الشريف، ص: 168].

بالعلم مع التقوى تُنال المحبة وينال الشرف، لا بما سبق بيانه من حال من ظنوا أنهم يمكنهم بلوغ الرياسة والسيادة بطرق يبتدعونها، ويحسبون أنهم على شيء.