تلك الوصية النبوية الخطيرة!
المقدمة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ في أول وأخطر وصية له وهو يرسله إلى اليمن مبلغاً عنه: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب) يعني فاعلم ذلك، واعلم أن ما كان يجدي في دعوة مشركي مكة قد لا يجدي مع أصحاب كتاب من عند الله يرون أنه حق، لأن مفاهيم أهل الكتاب وتساؤلاتهم مختلفة عما عند المشركين.
لقد كان درساً نبوياً لكل داعٍ إلى الله يُكتب بماء العين ودم القلب. كان درساً في جملة، ويا لها من جملة! فإن دلالاتها تفوق الخيال: إنك تأتي يوماً أهل كتاب. أي فاعرفهم واعرف ديانتهم وعقائدهم، واعرف نظرتهم ووجهتهم، بل اعرف كل شيء عنهم، والتمس ذلك وتعلمه قبل أن تدعوهم، لأن الأمر خطير، فقد تذهب لتصلح فتُفسد، ربما بكلمة يساء فهمها، والخطأ في الدعوة ليس كخطأ في غيرها، لأن الخطأ فيها أشبه ما يكون بالخطأ عند التعامل مع المواد المتفجرة، حيث يكون الخطأ الأول فيها هو الخطأ الأخير!
بهذه الخطورة يجب أن ينظر الداعية في السويد وغيرها إلى نظرة الناس إليه ورأيهم فيه، وأن لا يكون "درويشاً" فيقول: ما دام أن نيتي لله فكلام الناس ورأيهم فيَّ لا يُهمني! كلا يا مولانا.. فلستَ بخير من رحمة الله للعالمين صلى الله عليه وسلم، وقد جعل لذلك أهمية تعجب منها بعض أصحابه: فعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ رضي الله عنها قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَكِفًا . فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلاً . فَحَدَّثْتُهُ , ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ , فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي - وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - فَمَرَّ رَجُلانِ مِنْ الأَنْصَارِ ، فَلَمَّا رَأَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْرَعَا . فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : عَلَى رِسْلِكُمَا . إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ . فَقَالا : سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ : إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ . وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا - أَوْ قَالَ شَيْئًا.
فهذا أزكى البشر وخيرهم يحسب حساباً للناس، لأنه صلى الله عليه وسلم مُعلم هذه الأمة، وتعليمه لعامتها، ولدعاة الخير فيها وخاصتها من باب أولى. فإن كل عامل في هذه السبيل عُرضة لأن يقال فيه ويُنال منه ويُتهم في نيته وذمته وعرضه ولا بد، لكنه ليس من الحكمة أن يقول الداعي أو أن يفعل ما يدعو إلى الريبة فيه، أو ربما كرس ظنون من حوله فيه حتى تصير كأنها حقائق وليست كذلك.
المشكلة في إن كثيراً من أهل المنابر في السويد وما حولها لا يلقي أحدهم بالاً لما هو مقرر من قول وفعل النبي المعصوم عليه الصلاة والسلام في هذه المسألة الخطيرة، التي بلغت من ذلك أن يضعها رسول الله في مقدمة نصائحه لمعاذ رسوله لأهل اليمن! فتسمع من بعض المشايخ أقوالاً وتصريحات لا ضابط لها ولا رابط، تنم عن جهل أصحابها أن هناك آلاف من الناس يتابعونها وقد يتدينون بها! ذلك أن كلام "الشيخ" عند العامة دينٌ -كما لا يخفى على أحد- يقال بعده: الشيخ قال!! لكن كثيراً من أصحابنا -غفر الله لنا ولهم- لا يهتمون لذلك ولا يرفعون به رأساً. وأظن أن ذلك له علاقة بفهم خاطيء من بعض المشايخ لموضوع التواضع ونكران الذات والإخلاص! فإن التواضع ونكران الذات والإخلاص مطالب شرعية بلا ريب، لكنها بعيدة جداً عن موضوع كيف يرى الناس الإمام وكيف يرون كلامه وأفعاله، وما هي منزلته من وجهة نظرهم. فالشيخ في نظر جمهور المسلمين قائد ورأس في الناس شاء الشيخ أم أبى، صغُر أم كبُر. وبالتالي فكلامه (بخيرٍ كان أم بشر) له وزن عندهم، يفوق وزن كلام كل أحد، حتى وزن كلام الإمام بالإمامة العظمى. لذلك يجب أن يتعامل الشيخ الإمام بحذر شديد مع الكلمة، لأنه يُفترض فيه أن يكون أعلم الناس بخطورة الكلمة وقوة تأثيرها حين تكون من "شيخ" يرتقي المنبر حتى لو كان من غير أهله، بل حتى لو كان جاهلاً، فنحن في عصر انتشرت فيه وسائل التسجيل والتصوير حتى وصلت إلى جيوب الأطفال، وكلنا يعلم أن المتربصين بأهل الخير كثير -لا كثرهم الله- وإمكانية النشر متاحة للجميع، وثمة برامج للسفه والمسخرة وقلة الأدب تصطاد كل شاردة وواردة من المنابر للتعليق عليها بسخرية، تتحول أحياناً إلى سخرية من الدين نفسه!.
وفي هذا السياق ينشر أحد السفهاء كلاماً لأحد المشايخ من مصر يقسم فيه بالله تعالى على إن والدته من شدة برها بزوجها كانت تتذوق بول والده لترى إن كان عنده ارتفاع في السكر(!) وقد يكون ما قاله حدث بالفعل، لكنه لا يصلح البتة لتحديث الناس به، فضلاً عن نشره!
أيها الإمام والخطيب.. تذكر دائماً أن أي قول أو فعل سلبي يصدر عنك، تذكر أنه لا يضر بك وحدك، ولا بمسجدك وحده، بل تصل "شظايا" ضرره الى عموم المشايخ والمساجد في بلدك وما يجاوره، بل في بلاد الدنيا! فالعالم صار قرية صغيرة كما يقال، فلا أقول لك اتقِ الله في نفسك، بل أقول غير مبالغ في قولي: اتق الله في نفسك وفي مسجدك وفي مساجد وأئمة مساجد العالم.
الشيخ عبدالحميد ساهين